كيف أصبحت كيش موقعا أثريا؟ في أوائل القرن التاسع عشر لم يكن هناك بعد ما يعرف الآن بعلم الآثار، ولم يكن بمقدور أحد قراءة الخط المسماري منذ ما يقرب من ألفي عام. وقد استغرق الأمر الكثير من الجهد والعمل من قبل السكان المحليين والرحالة الأجانب للبدء في فهم هويتها العريقة، وادراك انها تستحق المزيد من الاستكشاف، واختبار طرق مختلفة للقيام بذلك.
قبل مائتي عام كان ما نسميه الآن موقع كيش، بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في الحلة والمنطقة المحيطة بها (الصورة رقم ﴾1) تماما كما هو الحال بالنسبة للزوا، مجرد سلسلة من التلال المنخفضة، مغطاة بقطع الفخار المكسورة ، وكانت الأرض جافة وقاحلة جدا بحيث لا يمكن رعيها أو زراعتها. وتشير الأسماء العربية لبعض المناطق الأكبر إلى كيفية ارتباط السكان المحليين بها: تل الأحيمر، "التل الأحمر الصغير"، كان (ولا يزال) معلما شاهقا مميزا للغاية، في حين أن تل الخزنة، "الخزانة"، يشير إلى أنه كان مصدرا موثوقا للأشياء الثمينة من تحت الأرض. وعلى الرغم من أن العديد من الكتابات الحديثة عن "الاكتشافات" الأثرية تتجاهل الخبرة المحلية التي ثقفت ووجهت مستكشفي الآثار الأوروبيين، الا ان بالإمكان قراءة ما بين سطور كتابات هؤلاء المستكشفين لتكوين صورة أكثر دقة عن حجم التبادل المعرفي بين الجانبين.
بين عامي 1811 و 1851، زار ما لا يقل عن خمسة دبلوماسيين أو مستكشفين بريطانيين أو مروا بتل الأحيمر، ووصفوه في كتب الرحلات دون أن يفهموا تماما ما رأوه. كما يشير روجر موري (Moorey 1978: 1). في ذلك الوقت ، لم يكن أمام الغربيين المثقفين خيار سوى تفسير العصور القديمة في الشرق الأوسط من خلال تعليمهم الكلاسيكي والكتابي. لذا من وجهة النظر هذه، لم يمكن أن يكون الأحيمر سوى الحد الشرقي لمدينة بابل الشهيرة، التي كان مركزها على بعد حوالي 20 كم إلى الغرب، وما يعرف الآن بالزقورة الذي كان "كومة" أو "ركام" من الطوب مرتبط بطريقة ما بالجدار الشرقي لبابل.
وتقدم مذكرات جيمس سيلك باكنغهام " رحلات في بلاد ما بين النهرين"، تفاصيل واضحة عن مدى اعتماد الرحالة الأوروبيين على الدعم المحلي، ومخاطر عدم أخذ مشورة الخبراء. مثال على ذلك، عند زيارته لبابل والأحيمر في أواخر يوليو 1816، اعتمد باكنغهام على القائم بالأعمال في شركة الهند الشرقية البريطانية في بغداد، جيمس كلوديوس ريتش، لتوفير ثلاثة رفقاء في السفر - واحد أوروبي والآخر كردي (زار بابل من قبل)، وواحد من أصل أفريقي - كانوا جميعا موظفين في الملحقية. كما أرسل ريتش ورئيس بلدية بغداد العثماني رسائل رسمية إلى الحاكم والقائد العسكري للحلة (Buckingham 1827: 240–241) للتعريف به.
2: "العودة من رحلة صحراوية بحثا عن أسوار بابل" (Buckingham 1827: 294). يبدو أن هذا يظهر مجموعة السفر وهي تتعافى في ضريح سليمان بن داود، في طريق العودة من الأحيمر إلى الحلة، بفضل كرم المسؤول عن الضريح.
انطلقت المجموعة على ظهور الخيل من الحلة في يوم صيفي حار ودون ما يكفي من مياه الشرب، اذ توقعوا ان تستغرق الرحلة نصف الوقت الذي كانت تستغرقه فعلا. وقد توقف نصف المجموعة عند الضريح غربي الأحيمر بينما واصل باكنغهام ورفيقه " الفارس الكوردي" الذي لم يذكر اسمه، السفر الا ان الظروف المناخية في الموقع في منتصف النهار كانت شديدة الحرارة وعاصفة ومغبرة لدرجة أنهما لم يتمكنا من البقاء إلا بضع دقائق قبل العودة الانضمام إلى الآخرين في الضريح (Buckingham 1827: 301, 349). وهما يعانيان الإرهاق والعطش وربما ضربة شمس. ثم اختلفت المجموعة فيما بينها باصوات عالية حول طريق العودة الصحيح الى الحلة، وذهبت المجموعتان في جهتين مختلفتين ليجتمعا ثانية بالصدفة في ضريح آخر (Buckingham 1827: 352 وانظر الصورتين 2 و 3). هنا قدم لهم الإمام المسؤول الطيب الفاكهة والماء ومحلا للنوم، مما منحهم بعض الطاقة للوصول إلى الحلة عند غروب الشمس. وعند عبور جسر النهر إلى المدينة (الصورة 1) ، تم الترحيب بهم بالكثير من التندر وبعض الوقاحة من قبل الشباب المحلي، لأن شكلهم كان رثا ومتسخا بالتأكبد بعد رحلة السفر المضنية (Buckingham 1827: 354–9). ومما لاشك فيه انه بدون ضيافة الغرباء وبعض حظ الأغبياء، كان من الممكن أن يتحول المشروع المتهور بسهولة إلى مأساة.
وبحلول 1840، بدأت كل من السلطات البريطانية والفرنسية بدعم بعثات آثارية أكثر تنظيما إلى مدينتي آشور وبابل. وكان هدفها بشكل عام هو اكتشاف ونقل القطع الأثرية والكتابات التي يمكن أن تكون مرتبطة بالعهد القديم لغرض دراستها وعرضها في متاحف لندن وباريس. وبسبب ما أثاره اكتشاف آثار التماثيل الحجرية الضخمة في قصور نينوى القديمة وجيرانها بالقرب من الموصل من اهتمام كبير، فقد قللت هذه البعثات الاستكشافية من اهمية الآثار في جنوبي البلاد، التي تم بناؤها بدون استخدام الحجر. ولم يتم تطوير التقنيات الأثرية حتى أواخر القرن التاسع عشر لتتبع الخطوط العريضة للجدران المبنية من الطوب اللبني وفهم عمليات انهيار المباني القديمة ليفراني (Liverani 2016: 66).
3: "خارطة بابل" (Oppert 1856). من الممكن ملاحظة تلال الاحيمر والخزنة (دار الكنوز) وبندر، المشار إليها بالأرقام 7 و 8 و 9 في الزاوية الشرقية وضريح سليمان بن داود (حيث استراح باكنغهام وفريقه عام 1816) في الأعلى. وبلدة الحلة في وسط المدينة القديمة المفترضة.
بالرغم من ذلك، فإن الرغبة في تجميع الألواح المسمارية لرفد التقدم السريع الذي أحرزه خبراء فك شفرة اللغة المسمارية في اوروبا، دعمت "بعثات" الجمع على نطاق واسع، مثل البعثة العلمية والفنية لبلاد ما بين الرافدين والشرق الأوسط Expédition scientifique et artistique de Mésopotamie et de Médie في أوائل 1850 (Oppert 1863; Pillet 1922). لذلك قام فريق ممول من فرنسا بالتنقيب عن القطع الأثرية في تل الأحيمر والخزنة وبندر في أكتوبر 1852، واثقين من أنهم كانوا يستكشفون كوثا القديمة، التي اعتبروها منطقة في بابل (الصورة رقم 3). الا ان جميع اكتشافات البعثة غرقت في حطام سفينة على نهر دجلة في عام 1855. وكانت هناك محاولة أوائل القرن العشرين لإعداد كتالوج من الملاحظات المتبقية، في محاولة لإنقاذ أكبر قدر ممكن من المعرفة من الاختفاء الا انها لم تسفر إلا عن تلميحات "غامضة" حول ما ضاع من آثار (Pillet 1919; Moorey 1978: 10).
لم تبدأ كيش بالظهور كمدينة قائمة بحد ذاتها الا في 1870. ولم يحدث هذا في الموقع وانما في المتحف. ففي عام 1874 تمكن عالم الآشوريات البريطاني جورج سميث من قراءة اسم كيش بشكل صحيح في نقش على لبنة نسخها مسافر آخر في الموقع في 1818 (Smith 1874). ومع ذلك، لم يعني هذا الاكتشاف أن تحديد ماهية التلال قد حسم بشكل نهائي اذ بقي داود توما وهرمز رسام ينقبان دون جدوى خلال السنوات 1879-1890 بحثا عن ألواح للمتحف البريطاني على تلال خزنة وذهب وإنغارا وبندر كجزء من عملهما في منطقة بابل الكبرى. وأصر بعض العلماء البارزين حتى في أوائل القرن العشرين، اعتقادهم بأن موقع كيش القديمة كان في الشمال الشرقي، على نهر دجلة (Moorey 1978: 11–12). وأخيرا ، في عام 1909 ، تمكن أمين متحف اللوفر فرانسوا ثورو دانجان من دمج الأدلة ببراعة من النقوش المنشورة سابقا، وتضاريس الموقع وعلاقته ببابل، بالإضافة الى لوح تم الحصول عليه حديثا من الحفريات المحلية ، ليثبت أن كيش هي ذاتها الأحيمر الواقعة في مجرى قديم لنهر الفرات (Thureau-Dangin 1909). باختصار، استغرق الأمر ما يقرب من قرن من المعرفة والعمل المتراكمين، من قبل العراقيين والأوروبيين على حد سواء، لكي تستعيد كيش هويتها العريقة.
30 Jun 2025
الينور روبسون
الينور روبسون, 'الاستكشافات المبكرة (1816-1909)', The Forgotten City of Kish • مدينة كيش المنسية, The Kish Project, 2025 [http://oracc.org/kish/alsafhat-alrayisia/tarikh-kish/istikshafat-mubakira/]