التل A هو الاسم الذي يطلق على ما كان في يوم من الأيام كومة منخفضة وغير منتظمة من الأرض "على شكل حرف S"، بالقرب من زقورة معبد عشتار الكبيرة في تل إنغارا (Mackay 1925: 9). واشتهر التل، عندما بدأ فريق بعثة الاستكشاف التنقيب فيه في 1923، بأنه موقع قصر سومري فخم، يرجع تاريخه إلى فترة السلالات المبكرة الثالثة 2500 قبل الميلاد، ومقبرة واسعة كانت قد بنيت فوق جدران القصر، واستخدمت لفترة قصيرة عقب التخلي عن القصر.
[/kish/images/mounda-basketboys-large.jpg]1. مخطط القصر السومري على التل أ في كيش. المصد Moorey 1978: 57, استنادا إلى Mackay 1929 pl. XXI-XXII
بدأ فريق التنقيب عمله في التل A في يناير 1924. وكان الفريق قد تفاجأ، اثناء زياراته في العام الذي سبق، بكمية شظايا الفخار المكسور وقطع الطوب والصوان التي كانت تغطي أرض الموقع، وقرر وقتها استكشاف المنطقة. وقد قامت بعمليات التنقيب مجموعتان تتكون كل منهما من تسعة رجال وفتيان بادئ الأمر. وكانت كل مجموعة تضم "مسؤول الفأس" وكان قائد المجموعة، و "عاملي معول"، و "ستة فتيان" (Mackay 1929: 77). يقول ماكاي ان مسؤولي الفأس كانوا من منطقة قويريش، وهي قرية قريبة من بابل، وكانوا حفارين ذوي خبرة اذ عملوا سابقا مع فريق التنقيب الألماني في بابل، وربما في مواقع أخرى قبل ذلك أيضا. أما عمال المعاول والفتيان المكلفون بحمل سلال التربة ("فتيان السلال" كما كان يطلق عليهم آنذاك) فكانوا من كيش.
[/kish/images/mounda-basketboys-large.jpg]2. "فتيان السلال" في كيش، غير مؤرخ. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 134، نيجاتيف 59674
ويروي ماكاي أن رجلا واحدا اشتهر بشكل خاص بمهاراته العملية في الموقع. فعندما بدأ الفريق في الحفر لأول مرة، كان تركيزهم على العثور على الجدران والمداخل لتحديد مخطط القصر. لكن الجدران المبنية من طوب اللبن كانت في حالة متدهورة لدرجة أنه كان من الصعب عدم تدميرها عند لمسها. ومع ذلك، كان أحد أعضاء الفريق، الذي لم يتم الاحتفاظ باسمه في سجل التقارير الخاصة بالبعثة، يتمتع ب "قدرة استثنائية" على العثور على الجدران والمداخل في الطين الهش لدرجة أنه قاد الفريق خلال الموسم الأخير كله. وكما تظهر النتائج، فقد كان بارعا في عمله (Mackay 1929: 78). وبحلول نهاية مارس 1925 تم تنقيب القصر بأكمله (Mackay 1929: 75). ومن المؤسف انه لم يتم تسجيل بسماء جميع العمال من رجال وفتيان في تقارير العمل، لكن بعض الصور بقيت في أرشيف بعثة OFME.
[/kish/images/mounda-palace-ne-large.jpg]3. "بناء القصر السومري من الشمال الشرقي"، غير مؤرخ. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 45، نيجاتيف 49218
لم يتبق شيء من القصر اليوم، لكن التقارير والصور الفوتوغرافية لأعمال التنقيب تظهر أن معالمه المعمارية كانت مثيرة للإعجاب. وكان للقصر ذات يوم واجهة كبيرة ودرج مبني من الطوب المحدب المسطح ( محدب من جانب ومسطح من الجانب الآخر). وكان القصر يحتوي على أكثر من 60 غرفة، العديد منها مزين بالصدف والأفاريز التي تصور الاحتفالات والولائم.
[/kish/images/mounda-stairway-large.jpg]4. "منظر لدرج القصر ِِA"، غير مؤرخ. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 41، نيجاتيف 68317
بناء القصر بأكمله من الطوب المحدب المسطح، بما في ذلك أساساته وجدرانه العلوية، وأنجز على ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى: جناح غربي وهو الجزء الأقدم. وقد أطلق عليه ماكاي اسم الكتلة الشمالية (الغرف 1-31). ثم تمت إضافة مدخل ضخم وغرف إضافية (الغرف 32-38) في وقت لاحق، وتم بناء ملحق به رواق ذو أعمدة إلى الجنوب من المبنى الأصلي. ويطلق علماء الآثار على هذه المنطقة اسم الكتلة الجنوبية (الغرف 39-60). وكان هذا الملحق محصنا بقوة، مع وجود أبراج على مسافات، على جدرانه الخارجية المزدوجة(Gibson 1972: 78).
[/kish/images/mounda-facade-large.jpg]5. "واجهة القصر A"، غير مؤرخ. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 33، نيجاتيف 206.
عندما أضاف المهندسون المعماريون القدماء الملحق، كان عليهم رفع مستوى الأرض، ولم يعد من الممكن استخدام الدرج في الطرف الشرقي لذا تم تحويله الى منحدر بدلا من ذلك. الا ان البعثة وجدت، بعد تنظيف المكان بحثا عن الدرجات الاصلية، إنه كان مكونا من ثماني درجات تؤدي إلى مدخل واسع (غرفة 34) ثم إلى غرف وممرات الى الشرق والغرب. وكان هذا الجانب من القصر في حالة مزرية عندما تم العثور عليه فقد جرفته عوامل الطقس (Mackay 1925: 91). ونجت ثلاثة غرف فقط (الغرف 36، 37، 38). واكتشف الفريق على الجدران الخارجية أيضا دعامة وواجهة مطعمة بمحاريب.
[/kish/images/mounda-niches-large.jpg]6. "محاريب في واجهة القصر A"، غير مؤرخ. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 38، نيجاتيف 226.
[/kish/images/mounda-inlays-large.jpg]7. بعض الشراذم التي تم العثور عليها في القصر السومري في كيش والتي توجد الآن في متحف فيلد بشيكاغو. صورة غير مؤرخة من OFME. المصدر: موقع البيانات الرقمية لمتحف فيلد [https://fm-digital-assets.fieldmuseum.org/81/218/a88486.jpg].
اكتشف فريق OFME أيضا أن العديد من جدران القصر كانت عبارة عن طلاء جصي، أي المادة نفسها التي نسميها الآن الجص في العراق (Mackay 1929: 107). وقد تم استخدام هذ الخلفية لتزيين الجدران بمرصعات مصنوعة من عرق اللؤلؤ والصدف وغيرها من المواد الحساسة والثمينة. وتم العثور على العديد من هذه الشذرات في طوابق الغرف.
بالنسبة لماكاي، كان أحد أكثر نماذج المرصعات إثارة للاهتمام، قطعة تم اكتشافها في زاوية الغرفة 35. وهي مصنوعة من حجر الكلس الأبيض الناعم، وبالرغم من انها مكسورة الا ان حجمها كبير بشكل لافت، بأبعاد تبلغ 64 سم × 33 سم، وسمك 3 سم (Mackay 1929: 120). وتجسد المرصعة ملكا يرفع قدمه اليمنى قليلا و تكأ على شيء غير معروف لانه تعرض للتدمير للأسف، وربما كان عدوا، مثل الملك الآشوري نارام سين الموجود في لوحة النسور. والمرصعة موجودة الآن في مجموعة متحف أشموليان في أكسفورد [https://www.ashmolean.org/collections-online#/item/ash-object-461501] في مجموعة متحف أشموليان في أكسفورد.
كما تم تجسيد النساء في هذا المشهد. وكانت عيونهم مصنوعة من اللازورد ويرتدين ملابس جميلة و قلادات وإكاليل وأقراط، ويحملن نوعا معينا من الأكواب في أيديهن، بقاعدة مدببة. ووجد فريق ماكاي أكواب فخارية مماثلة في القصر (Mackay 1929: 123).
كما تم تجسيد النساء في هذا المشهد. وكانت عيونهم مصنوعة من اللازورد ويرتدين ملابس جميلة و قلادات وإكاليل وأقراط، ويحملن نوعا معينا من الأكواب في أيديهن، بقاعدة مدببة. ووجد فريق ماكاي أكواب فخارية مماثلة في القصر (Mackay 1929: 123).
قصيدة نظمت لمدح الملك شولجي [https://etcsl.orinst.ox.ac.uk/cgi-bin/etcsl.cgi?text=t.2.4.2.02&display=Crit&charenc=&lineid=t24202.p14#t24202.p14] ي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد (Franklin 2016: 77). وكان الموسيقيون موظفين مهمين في الدولة. اذ تخبرنا النصوص المسمارية أنه خلال فترة ما قبل الملك سرجون (2700-2350 قبل الميلاد) والعصر البابلي القديم (2004-1595 قبل الميلاد)، تنقل الموسيقيون بين كيش وماري وإيبلا، بالإضافة إلى مدن أخرى، للعزف في ولائم الدولة (Ziegler 2007).
[/kish/images/mounda-pillars-large.jpg]8. "قاعة الأعمدة، الجنوب الغربي، القصر A"، غير مؤرخ. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 44، نيجاتيف: غير مرقم.
كانت الأعمدة واحدة من أكثر السمات المعمارية لفتا للانتباه في القصر. وقد وصفها ماكاي بأنها "اكتشاف فريد في العمارة السومرية " (Mackay 1929: 99). وقد استخدمت ليس فقط كدعم هيكلي للسقف ولكن للتزيين. وكانت جميعها بوضع جيد اذا اخذ عمرها بنظر الاعتبار. وقد تناقص ارتفاعها بمرور الوقت، لكن متوسط العديد منها لا يزال يبلغ طوله 70 سم فوق قواعدها، بل كان بعضها أعلى. وتحتوي القاعة 5، على سبيل المثال، على أربعة أعمدة في منتصفها، يبلغ قطر كل منها 150سم، مع عمود أقصى الشمال يقف على ارتفاع 180 سم فوق رصيف الطوب (Mackay 1929: 95).
تم العثور على أشياء قليلة في القصر. وقد وصف ماكاي الموقع بأنه "موقع مخيب للآمال للغاية فيما يتعلق بالعثور على الأشياء القابلة للنقل" (Mackay 1929: 62). وهذا ليس بالأمر غير المعتاد في مباني بلاد ما بين النهرين، لكن ماكاي وجد هذا غريبا لأنه حتى لو تم نهب القصر في العصور القديمة، لكان الناس قد أخذوا أغلى الأشياء فحسب الا ان الغرف افرغت تماما. فماذا حدث لسكان القصر القدامى، ولماذا توقف استخدام القصر في المقام الأول؟
في عام 1929، سجل ماكاي أنه وجد دليلا على أن كلا من الجانب الأصلي من القصر وملحقه تعرضا للهجوم، ربما في أكثر من مناسبة. لكن في عام 1972، لاحظ جيبسون "أن الأدلة قليلة على ان واقترح جيبسون أن سبب اكتشاف عدد قليل جدا من الأشياء في القصر هو أنه تعرض لعمليات تفريغ ممنهجة، وليس لعمليات سلب.
وبناء على الأدلة الأثرية، تم التخلي عن القصر في فترة السلالات المبكرة IIIb (2540-2350 قبل الميلاد). لكن التل A بقي مشغولا، بما في ذلك في الألفية الثانية والأولى قبل الميلاد مع وجود آثار استخدام في العصر العباسي أيض (Gibson 1972: 79). ولكن قبل ذلك، بعد بضع مئات من السنين من مغادرة سكنة القصر، تم استخدام الموقع كمقبرة لفترة قصيرة.
[/kish/images/mounda-cemetery-large.jpg]9. "المقبرة "أ" تشاهد من على الزقورة الكبيرة في تل انغارا"، غير مؤرخة. المصدر: ألبوم صور OFME، ANT 140، ص. 9، نيجاتيف 49184.
عندما بدأ فريق OFME في الحفر في التل A، اكتشفوا لأول مرة أن سطح التل مخترق بالقبور وقد بنيت فوق القصر السومري، بعد أن تم التخلي عنه لبضع مئات من السنين. واستخدمت المقبرة لجيلين أو ثلاثة فقط في الألفية الثالثة قبل الميلاد، بين 2430 قبل الميلاد و نحو 2330 قبل الميلاد (أوائل السلالات الثالثة ب حتى أوائل العصر الأكادي) وفقا ل Moorey (1978: 104).
ومع انتهاء عمليات التنقيب، سجل ماكاي اكتشاف 154 قبرا، لكنه أشار إلى أن هناك الكثير من القبور التي لم يتم استكشافها. وكانت تضم رفات بشرية بالإضافة إلى مقتنيات شخصية دفنتها العائلات مع أحبتها قبل أربعة آلاف عام ونصف العام.
في هذا القسم، سنصف بإيجاز فقط الاكتشافات التي تم العثور عليها في المقبرة A، ونود أن ننوه للزوار والقراء من أن جمع هذه الآثار كان يتم عندما كان العراق مستعمرا. في أوائل القرن العشرين، وكانت أولوية أعمال التنقيب الأثري لاكتشاف الأشياء، بما في ذلك الرفات البشرية لإثراء المتاحف، ولدراسة تقاليد وثقافات الأولين. أما في الوقت الحالي فان الروادع الأخلاقية بشأن مثل هذه المجموعات لم تؤدي إلى تغيير الممارسات الأثرية فحسب، بل فتحت أيضا نقاشات حول موضوع استحصال الأذون والموافقات والتمثيل الثقافي. أما في أيامنا هذه يتم التعامل، حتى مع الرفات البشرية القديمة جدا، بكرامة واحترام.
وقد تم وضع الرفات البشرية ل "المقبرة A" في مجموعة متحف فيلد في شيكاغو منذ استخراجها ونقلها، إلى جانب معظم الأشياء لتي كانت موجودة في هذه القبور. وقد أدى تحليل الرفات علميا إلى نشر العديد من البحوث المتنوعة، بدءا من البحوث في الصحة التي تعتمد دراسة الأسنان، إلى الممارسات الجنائزية والديموغرافيا في كيش. لكن جميع النتائج عانت من نقص البيانات االجيوستراتيجية الموثوقة والسياقات الأثرية لهذه الاكتشافات. اذ لم يتم جمع هذه المعلومات أثناء تنقيبها أو نشرها في التقارير.
وأكدت الدراسات الأثرية البيولوجية أن الرفات البشرية في المقبرة A هي بقايا ذكور واناث بالغين بالإضافة الى اطفال. وانه لم يكن يتم دفن المتوفين في توابيت، ولكن في حصران مصنوعة من القصب. وكان يتم وضع الجثث في قبور مستطيلة الشكل، مصنوعة من الطوب أو الأرضيات الطينية (Pestle, Torres-Rouf, Daverman 2023). وكانت قبورهم غنية بالأشياء، على سبيل المثال الأختام الأسطوانية والفخار والتماثيل والأدوات والأسلحة، بالإضافة إلى الأشياء الشخصية مثل الأدوات المنزلية كالمغازل والأطباق والحلي الشخصية ودبابيس الشعر والأقراط وخواتم الأصابع والحلي الأنفية والخرز.
وكانت بعض الجرار المكتشفة رائعة على وجه الخصوص. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف "وعاء بمقبض يجسد إلهة" في القبر رقم 52 (Gibson 1972: 79, fn 126).
30 Oct 2025
ناديه أث سعيد-غانم
ناديه أث سعيد-غانم, 'القصر السومري (التل A)', مدينة كيش المنسية, مشروع مدينة كيش المنسية, 2025 [http://oracc.org//tilal-kish/tell-ingharra/alqasr-alsumeri/]